قصة قصيرة " كلمات "-محمد مباركي (المغرب)
طنجة/الأدبية، الجريدة الثقافية لكل العرب. ملف الصحافة 02/2004. الإيداع القانوني 0024/2004. الترقيم الدولي 8179-1114 

 
قصة/نصوص

قصة قصيرة " كلمات "

  محمد مباركي    

في لحظة صفاء ، حيث يعود المزاج إلى الاعتدال، و تتسع النظرة أكثر، ململمة بعضا من  صور الكون العظيم في حافظة العقل ، تتصفحها بتأمل الحكماء ، لترسم  منها متاهات الفكر بكل تجلياته . في هذا الصفاء ، أنصب خيمتي المعزولة وحدي على ربوة في الخلاء ، أمارس لعبة الانعتاق من عبودية الجدران أي جدران . أرى من هذا السنام المحدب قرى الطوب المبعثرة و الكهوف المنحوتة في الصخر ، و فاكهة الصبار العالق في السفوح ، أرجأت التسلق لآكل منها ، و أطل على فراخ الطيور الجارحة المعلقة في أعشاش منيعة ، أرجأت التسلق حتى الانتهاء من إشباع الرغبة الملحة في إتمام مشروعي في الخيمة المعزولة .. التأمل. هكذا سولت لي نفسي .. التأمل في لحظة صفاء.. ثم الكتابة.
و تساءلت " أهو الجنون ؟ ". أكيد أن الذي يراني على هذا النحو سيقول أنه الجنون . لذلك حاولت ربط علاقة محدودة مع بعض القرويين لأقتل التساؤل و الريبة في نفوسهم . وزعت بعض الحلوى على صغارهم عند عيون الماء الشحيحة ،و ملأت قربتي المصنوعة من جلد ماعز، اشتريتها خصيصا لهذه العطلة ،  أضعها فوق حماري مؤنسي في غربتي المحدودة ، كان صغيرا و قصيرا ،  لا أدري لماذا اشترطت على تاجر الدواب أن يكون كذلك ، لم أساومه في الثمن ، اشتريته وفق اكتمال الشرطين ، سقته أمامي فطاوعني ، و كان يجد في المسالك الوعرة مع الارتفاع أكثر من الانحدار . لكن مشكلته كثرة النهيق الذي لم أتعود عليه في البداية، و تساءلت " لماذا تنهق الحمير بهذه الأصوات المنكرة ؟ أهي مغازلة للإناث ؟ أم هي محاولة إثبات الذات في محيط مقدس ، تذود عنه بالرفس و العض؟ " و اتسع سؤالي عن نهيق الإنسان ، فهو مكرم و ينهق .. هذا أكيد . قد سمعت نهيقه، إذ أعادتني  لحظة الصفاء  في جلسة قرب الخيمة على حصير قصير و لحاف من الصوف ، أعادتني خمسة عقود إلى الوراء ، كلها نهيق مؤلف في سيمفونيات تعددت مقاطعها بتعدد السياسات و الثقافات و دروس اللغو على المنابر
 و الشاشات الصغرى . ندمت على مشاهدتي أولى أبواق النهيق، كانت شاشة فضية بقناتين الأولى وطنية و الثانية أجنبية ، في ذلك الخريف من سنة 1969 بمقهى بحي الطوبة الداخلي بوجدة الوجد ، رافقت جارنا " الوكيلي"  سائق " كارو بنعياد".
أخرجني من لغو الأفكار هذا وقع أقدام  قروي ، يحمل خبزة بيد و كوز لبن بيد أخرى ، حياني بكلمات متلعثمة، و أعطاني الهدية التي سجلت خصاصتي منها  لما طلبت خبزا من عجوز في يومي الأول.
و تقاطر علي القرويون بالخبز و التين و الزبيب و الجوز ، فأشركت حماري في هذا الخير ، فكثر نهيقه حتى صم آذاني . كانت أعين القرويين تتلصص على الخيمة المكشوفة ، تطرح علي أسئلة صامتة ، كانوا قد طرحوها فيما بينهم و لا شك ، حول الخيمة و صاحبها و حماره . تعمدت بالمكاشفة أن أروي هذا الظمأ.
 تشجع أحدهم و سألني " هل أنت من يكتب التمائم و الحروز ؟ " قلت " أبدا ، أنا أرسم الكلمات في صور الأفاعي تلدغ بالحروف كل من غرق في  المبيقات السبع، والذي أخرس الصخر عن القعقعة في الأودية
 و الأرباض من تاريخ أول قطرة دم إنسية زكية سقطت حقدا، حسدا لتأسس ثقافة الصراع   على كرسي مرصع بالزبرجد ، نخر التسوس قوائمه الخشبية ، و تحولت فتوى  بيعة مكره " مالك"  إلى حاجز يقفز عليه العداءون، مسجلين أرقاما قياسية في الوصول إلى الخط النهائي عند قدمي الحاكم الملهم و المسكون بالفصول الميكيافلية ، يتوسدها منسوخة بكل الخطوط العربية ، بل يشرب ماءها بعد وضعه سبع ليال تحت النجوم ، بهذا نصح المنجمون و من ورائهم الحريم و العسكر .
و تعالت الأوامر في كل الوطن عبر مكبرات الصوت « دقوا رأس الأفعى الخارجة من حروف الكلمات ، فهي العدو ".
عاد القروي من حيث أتى ، و لم يفهم شيئا مما قلت أو أنه تظاهر بعدم الفهم . و سهرت مع حماري حتى الهزيع الأخير من الليل ، أرسم الكلمات على ضوء قنديل " عزيزي" أتزلف  إلى النوم بهدهدة جسمي على كرسي من القش . و بعد غفوة قصيرة ، قفزت مذعورا من نهيق حماري ، و كان أعنف من ذي قبل ،نهق  لما شاهد سيارة " جيب" ينزل منها أربعة دركيين مدججين بالرشاشات ، يرافقهم " شيخ الدواوير " . تلاحقت أنفاسهم باللهاث مع صعود التل . أمروني بالخروج من الخيمة مرفوع اليدين كما في الأفلام . ففعلت . فتشوني ثم قيدوني بالأصفاد ، و حطموا الخيمة بعد تفتيشها ، فلم يعثروا على ما جاؤوا من أجله ، المساكين. حنقوا على الشيخ و بصقوا عليه  ، فضحكت ملأ شدقي بعد أن علمت أنه طار بوشاية كاذبة ، مفادها أن غريبا يتدرب على استعمال سلاح ما . فلما سألوني عن أي سلاح أتدرب. قلت باسما
" أتدرب على سلاح الكلمات " .



 
  محمد مباركي (المغرب) (2009-10-01)
Partager

تعليقات:
أضف تعليقك :
*الإسم :
*البلد :
البريد الإلكتروني :
*تعليق
:
 
 
الخانات * إجبارية
 
   
   
مواضيع ذات صلة

قصة قصيرة

متابعات  |   ناصية القول  |   مقالات  |   سينما  |   تشكيل  |   مسرح  |   موسيقى  |   كاريكاتير  |   قصة/نصوص  |   شعر 
  زجل  |   إصدارات  |   إتصل بنا   |   PDF   |   الفهرس

2009 © جميع الحقوق محفوظة - طنجة الأدبية
Conception : Linam Solution Partenaire : chafona, sahafat-alyawm, cinephilia